قال العلامة ابن الهمام الحنفي في كتابه فتح القدير:
"وينبغي أن يكون وقوف الزّائر على ما ذكرنا ، بخلاف تمام استدبار القبلة واستقباله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه يكون البصر ناظرًا إلى جنب الواقف ، وعلى ما ذكرنا يكون الواقف مستقبلاً وجهه عليه الصّلاة والسّلام وبصره فيكون أولى ، ثمّ يقول في موقفه : السّلام عليك يا رسول اللّه ، السّلام عليك يا خير خلق اللّه ، السّلام عليك يا خيرة اللّه من جميع خلقه ، السّلام عليك يا حبيب اللّه ، السّلام عليك يا سيّد ولد آدم ، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته يا رسول اللّه، إنّي أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأنّك عبده ورسوله وأشهد أنّك يا رسول اللّه قد بلّغت الرّسالة وأدّيت الأمانة ونصحت الأمّة وكشفت الغمّة ، فجزاك اللّه عنّا خيرًا ، جزاك اللّه عنّا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمّته.
اللّهمّ أعط سيّدنا عبدك ورسولك محمّدًا الوسيلة والفضيلة، والدّرجة العالية الرّفيعة، وابعثه المقام المحمود الّذي وعدته، وأنزله المنزل المقرّب عندك، إنّك سبحانك ذو الفضل العظيم.
ويسأل اللّه تعالى حاجته متوسّلاً إلى اللّه بحضرة نبيّه عليه الصّلاة والسّلام.
وأعظم المسائل وأهمّها سؤال حسن الخاتمة والرّضوان والمغفرة، ثمّ يسأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الشّفاعة فيقول:
يا رسول اللّه أسألك الشّفاعة، يا رسول اللّه أسألك الشّفاعة وأتوسّل بك إلى اللّه في أن أموت مسلمًا على ملّتك وسنّتك.
هذا وليبلّغ سلام من أوصاه بتبليغ سلامه فيقول: السّلام عليك يا رسول اللّه من فلان بن فلان , أو فلان بن فلان يسلّم عليك يا رسول اللّه.
يروى أنّ عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه كان يوصي بذلك ويرسل البريد من الشّام إلى المدينة الشّريفة بذلك، ومن ضاق وقته عمّا ذكرناه اقتصر على ما يمكنه.
وعن جماعة من السّلف الإيجاز في ذلك جدًّا ، ثمّ يتأخّر عن يمينه إذا كان مستقبلاً قيد ذراع فيسلّم على أبي بكر رضي اللّه عنه ، فإنّ رأسه حيال منكب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى ما ذكرنا يكون تأخّره إلى ورائه بجانبه فيقول : السّلام عليك يا خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وثانيه في الغار أبا بكر الصّدّيق ، جزاك اللّه عن أمّة محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم خيرًا ، ثمّ يتأخّر كذلك قدر ذراع فيسلّم على عمر رضي اللّه عنه ، لأنّ رأسه من الصّدّيق كرأس الصّدّيق من النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول : السّلام عليك يا أمير المؤمنين عمر الفاروق الّذي أعزّ اللّه به الإسلام ، جزاك اللّه عن أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خيرًا ، ثمّ يرجع إلى حيال وجه النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيحمد اللّه ويثني عليه ويصلّي ويسلّم على نبيّه ويدعو ويستشفع له ولوالديه ولمن أحبّ ، ويختم دعاءه بآمين والصّلاة والتّسليم .
وقيل ما ذكر من العود إلى رأس القبر الشّريف لم ينقل عن الصّحابة ولا التّابعين" .
ومما ذكره الأئمة والعلماء أيضاً ما قاله الإمام النووي رحمه الله تعالى، فإنه قال في كتابه المجموع شرح المهذب شارحاً كيفية زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما:
"وليكن من أول قدومه إلى أن يرجع مستشعراً لتعظيمه ممتلئ القلب من هيبته كأنه يراه، فإذا وصل باب مسجده صلى الله عليه وآله وسلم فليقل الذكر المستحب في دخول كل مسجد ... ويقدّم رجله اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج كما في سائر المساجد ، فإذا دخل قصد الروضة الكريمة وهي ما بين القبر والمنبر ، فيصلي تحية المسجد بجنب المنبر ... فإذا صلى التحية في الروضة أو غيرها من المسجد شكر الله تعالى على هذه النعمة، وسأله إتمام ما قصده وقبول زيارته، ثم يأتي القبر الكريم فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر، ويبعد من رأس القبر نحو أربع أذرع ... ويقف ناظراً إلى أسفل ما يستقبله من جدار القبر غاض الطّرف - أي البصر- في مقام الهيبة والإجلال، فارغ القلب من علائق الدنيا، مستحضراً في قلبه جلالة موقفه ومنزلة من هو بحضرته، ثم يسلّم ولا يرفع صوته، بل يقصد - أي يخفض- فيقول:
السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا نبي الله ، السلام عليك يا خيرة الله ، السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين ، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين ، السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك وأزواجك وأصحابك أجمعين ، السلام عليك وعلى سائر النبيين ، وجميع عباد الله الصالحين ، جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته ، وصلى عليك كلما ذكرك ذاكر وغفل عن ذكرك غافل ، أفضل وأكمل ما صلى على أحد من الخلق أجمعين ، أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك عبده ورسوله وخيرته من خلقه ، وأشهد أنك بلّغت الرسالة وأدّيت الأمانة ، ونصحت الأمّة ، وجاهدت في الله حق جهاده ، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون ، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي ، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، في العالمين إنك حميد مجيد .
ومن طال عليه هذا كله اقتصر على بعضه، وأقله: السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم.
وجاء عن ابن عمر وغيره من السلف الاقتصار جداً. فعن ابن عمر ما ذكرناه عنه قريباً، وعن مالك يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وإن كان قد أوصي بالسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان.
أو: فلان ابن فلان يسلّم عليك يا رسول الله، أو نحو هذه العبارة. ثم يتأخّر إلى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على أبي بكر رضي الله عنه لأن رأسه عند منكب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله وثانيه في الغار، جزاك الله عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً. ثم يتأخّر إلى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على عمر رضي الله عنه ويقول: السلام عليك يا عمر الذي أعز الله به الإسلام، جزاك الله عن أمة نبيه صلى الله عليه وسلم خيراً.
ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتوسّل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له، قال: كنت جالساً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء أعرابيّ، فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول:" ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرّسول لوجدوا اللّه توّابًا رحيمًا". وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:
- يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
- فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
- نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
- فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف فحملتني عيناي، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم، فقال: يا عتبيّ الحق الأعرابيّ فبشره بأن الله تعالى قد غفر له.
.... ثم يتقدّم إلى رأس القبر فيقف ... ويستقبل القبلة ويحمد الله تعالى ويمجده ويدعو لنفسه بما شاء ولوالديه ومن شاء من أقاربه ومشايخه وإخوانه وسائر المسلمين ثم يرجع إلى الروضة فيكثر فيها من الدعاء والصلاة ويقف عند المنبر ويدعو " .